قالوا في رثاء الشهيد
ياسر عرفات .. تاريخ من صنع يديه
بقلم بكر أبو بكر *
لو كتب التاريخ فصوله بعد خمسين عاما من الآن فلن يتبقى لامعاً في ذاكرته إلا القليل من الأحداث أي من أحداث زماننا هذا ، وبعض الرجال الخالدين الذين من المؤكد أن ياسر عرفات الذي زينت صورته بالنظارة السوداء والكوفية غلاف مجلة التايم عام 1968 هو على رأسهم، ولو كتب التاريخ الحوادث العظام التي كان لها عميق الأثر في القرن العشرين لكانت القضية الفلسطينية على رأس هذه الأحداث ولتقابلت القضية والقائد في عنوان واحدأن شخصية تاريخية خالدة مثل شخصية ياسر عرفات لم تفيها حقها مئات الكتب والأبحاث التي كتبت عنه باللغات الأجنبية ولا عشرات الكتب التي كتبت عنه باللغة العربية
عرفات عنوان فلسطين
يبقى ياسر عرفات عنوان فلسطين في ذاكرة الشعوب كافة ، فلطالما تجولنا في العالم لنعرّف كفلسطينيين بالقضية والشعب والثورة فيجد الناس أنفسهم حائرين للتعرف على فلسطين ويكادون لا يميزون باللفظ بينها وبين باكستان أو الأرجنتين ! ولكن عندما يتم ذكر اسم ياسر عرفات أو تظهر كوفيته الشهيرة على كتفي عضو من وفدنا الفلسطيني حتى تصبح القضية الفلسطينية حاضرة
أن حضور فلسطين ارتبط في العالم بصورة ياسر عرفات، الذي استشهد ليخلف الكوفية (موضة) تملأ محلات البضائع في الدول الأوربية هذا العام، ورمزا للثورة والتحرر والعدالة
لا يستطيع أي مؤرخ منصف أن يتجاوز هذا الرجل ، كما لا يستطيع أي سياسي مخلص أن يتنكر لانجازاته سواء أكان هذا السياسي قريبا أم معاديا للقضية الفلسطينية
إن ياسر عرفات رجل الحركة الفاعلة في مواجهة الجمود والتكاسل أو التراخي ، رجل الحدث الأول لم تصنعه الظروف ، بل هو كان رجل اللحظات والأحداث والأزمات بلا منازع في القدس ولد وأعاد كتابة شهادة ميلاده في القاهرة وهو الحسيني وابن القدوة الذي توفي أبوه ليدفن في خان يونس ممتد بأصلة للبيت العلوي
مولده
في أحد الزيارات التي رافق فيها هاني الحسن مستشاره السياسي إلى المغرب اصطحب الملك الحسن الثاني أبو عمار ليعرض عليه أصلة الشريف ضمن شجرة العائلة العلوية للأسرة الحاكمة في المغرب وأشار له بأصبعه أين يأتي نسب
في 1929/8/4 ولد محمد عبد الرؤوف على صوت الثورة فلم تكن ولادته في جو مريح فالبلاد كانت في انتفاضة كبرى ضد محاولات سرقة حائط البراق في القدس المسمى عند اليهود حائط المبكى وفق ما أطلق عليها تاريخيا ( هبة البراق ) ليتعانق صراخ الطفل مع صرخات المناضلين الذين يدافعون عن الأماكن المقدسة ولترتبط القدس ارتباطا وثيقا في فكر وقلب وعمل الرئيس عرفات الذي كان من الممكن أن يتساهل في الكثير من الملفات في كامب ديفد الثانية عام 2000 إلا في القدس . لقد كان ارتباطه بالقدس ارتباطا دينيا وتاريخيا وحضاريا وثوريا ، وبكلمة واحدة لم يرى عرفات نفسه بدون القدس وكما يشير لذلك من كتب عنه من مساعديه مثل أحمد عبد الرحمن وبسام أبوشريف وبسام كنفانيه
القسام وعرفات
الشيخ عز الدين القسام وياسر عرفات رجلان صنعا تاريخا، فالأول قدم إلى فلسطين هربا من السلطات الاستعمارية الفرنسية في سوريا عام 1925 -أو قبل ذلك في روايات أخرى- إلى حيفا وكان حين ولادة عرفات قد أمضى القسام 4 سنوات من التنظيم الفدائي المحكم ، ورغم أن الرجلين لم يلتقيا فهذا طفل وذلك كهل في ذات الزمان والمكان الا أنهما تشابها في شيئين مركزيين الأول: أن أي منهما لم ينتمي لتنظيم سياسي، والثاني: أن كل منهما صنع تنظيمه السياسي، فالقسام الذي دعا لحرب الصهاينة وشكل الخلايا واللجان وتعاون مع الأطر القائمة لم يكن منتمياً لا للقوميين ولا للشيوعيين ولا لحزب الإخوان المسلمين حديث النشأة والموجود في البعيد عن فلسطين
ياسر عرفات الطالب في الهندسة المدينة في بداية الخمسينات من القرن العشرين في القاهرة لم ينتمي هو أيضا لأي تنظيم سياسي رغم سطوة تلك التنظيمات حينها وهيمنتها على العقول، إلا انه رأى من خلف نظارته السوداء أن الضوء في آخر النفق ، وأن الضوء يحتاج لمن يراه فلا يفكر بالنفق فاستعان بكافة الجماعات ليتحقق انتصاره النقابي في رئاسة رابطة الطلبة الفلسطينيين في جامعة القاهرة
عز الدين القسام رغم فشل ثورته فشلا ذريعا من حيث موتها في المهد عام 1935 إلا أنه استطاع أن يصنع الرجال الأفذاذ ، واسقط فكرة التنظيم والثورة في نهج المقاتلين من بعده ، كما فعل ياسر عرفات الذي حصد عددا من انتصاراته في حياته وان لم يستطيع ان يرى دولته تقوم ، ولكنه خّلف فكرا ثوريا وطنيا باقيا ، وارثا نضاليا تتزاحم على حمله أكتاف الرجال من كل لون ومن كل حدب وصوب
نبوغ مبكر
في العاشرة من عمره كان يلهو مع اقرانه في شوارع القاهرة ، وإذ صادف أنه في هذا السن عاش الحرب العالمية الثانية لاسيما وأن مصر كانت مسرحا كبيرا من مسارح هذه الحرب ، فكان ياسر عرفات يتابع ما يراه في الصحف وما يسمعه في المدرسة وفي بيته وحارته عن مجريات الحرب .
وفي هذا السن الصغير ظهر اهتمام الطفل الرجل ياسر عرفات وبرز نبوغه المبكر في أشياء ومؤشرات بسيطة حيث كان يرسم الطائرات والدبابات والمدافع ويصنع منها أشكالا كرتونية كما أنه شكّل من زملائه ممن هم في سنه أوأكبر طابورا عسكريا كان يتدرب على المشي العسكري لا بل وكان لتأثير شخصيته على اقرأنه أن كان في هذا السن يخلع عليهم رتبا عسكرية حسب تقديره لهم فكان البعض ممن لا تعجبه الرتبة يرجوه أن يعدلها له كما يذكر أخيه فتحي رحمه الله.
أن طفولة ياسر عرفات وحتى العام 1948 كانت مهمومة بالحرب ، ربما كما هو حال الكثير من الأطفال في تلك الفترة ولكنها بتأثيراتها على الناس تختلف فتترك بصمات عميقة عند البعض مثل ياسر عرفات ، وآثار سرعان ما تزول عند غيرهم فيتابعون حياتهم وكأن شيئا لم يكن
النكبة غيرت مجرى حياته
لقد كانت النكبة العامل الحاسم في حياة المراهق ياسر عرفات إذ أنها أعادت صياغة مجريات حياته اللاحقة ، ورسمت في ضميره غضبا عارما وثورة لم ينطفيء لهيبها حتى وهو رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية أو رئيس لأول سلطة فلسطينية في التاريخ أقامها هو على أرض الوطن.
اقتطع ياسر عرفات من عمره فترة زمنية ابتعد فيها عن الجامعة وقاتل في صفوف جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني، وفي تلك الفترة على قصرها تعلم أمران الأول: ألا يعتمد على غيره فلقد كانت الخيانات العربية والخذلان لعبد القادر لطمة قوية في ضمير المراهنين على الدعم العربي فتعلم ياسر عرفات أن لا يعتمد على العامل الخارجي أكان عربياً كان أم إقليمياً أم عالمياً، واستنادا لهذه القناعة أطلق ثورة بأيد وأموال وقدرات فلسطينية بحتة جعلت من وجه فتح فلسطينيا وطنيا خالصا، وتعلم ثانيا: أن يبني علاقات متوازنة عربيا وإقليميا وعالميا في ظل استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، وان يستثمر هذا العلاقات لصالح الدرس الأول وهو المصلحة الوطنية الفلسطينية
الوطنية ورابطة الطلاب في القاهرة
أن القطرية الفلسطينية والوطنية الفتحوية لم تكن إقليمية ضيقة أو قومية شوفينية ، وإنما كانت نضالية كفاحية جامعة تركز على الهدف الرئيسي وتكتل العوامل الأخرى من حوله .
لم يهمل ياسر عرفات العامل الخارجي أبدا ، بل وعي أهميته ولكنه مع إيمانه بالمناضلين والجماهير عرف كيف يستخدم العامل الخارجي لمصلحة الهدف ، فخاض في حياته حروبا ضد كل من حاول أن يهز أركان نظريته هذه.
في جامعة القاهرة ظهر نجم ياسر عرفات فتى نشيطا لا يهدأ كثير الحركة والانجازات، يعمل لخدمة الطلاب بلا تعب، وفي نفسه أنه يعمل لأجل فلسطين في سنوات الضياع بعد النكبة فلم يفرط في فرصته أو يترك لحظة لا يعبر فيها عن وعيه المبكر بضرورة التمثيل الفلسطيني خاصة وهو يشهد أن النسيان بدأ يسدل ستائره على وجه القضية الفلسطينية .
في العام 1952 خاض ياسر عرفات الانتخابات لرئاسة رابطة الطلبة الفلسطينيين وفاز كما فاز لاحقا في قيادة حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، لم يكن الفوز الديمقراطي الأول لياسر عرفات بالفوز الهين ، فها هو الرجل الوطني المستقل يواجه تنظيمات سياسية قوية آنذاك كانت تهيمن على الرابطة ، وهيمنت لاحقا على الاتحاد العام لطلبة فلسطين منذ العام 1959 حتى ظهور فتح وسحبها البساط من تحت أرجل هذه القوى في العام 1968 في المؤتمر الرابع لاتحاد الطلاب
قدرة فذة على بناء العلاقات
استطاع ياسر عرفات أن يرتبط بعلاقات جيدة ومتزنة مع كافة التنظيمات السياسية حتى ظن البعض منها ومنهم الإخوان المسلمين أن ياسر عرفات منهم، لاسيما وان معظم زملائه أمثال صلاح خلف وسليم الزعنون كانوا من (الاخوانجية) ، ولما خاب ظنهم فيه حاولوا إسقاطه في الانتخابات إلا أن إصرار زملائه أمام قيادتهم الحزبية وفي الانتخابات جعلت فرص ياسر عرفات قوية.
استطاع الطالب ياسر عرفات أن يبنى علاقات جيدة مع الأطر المختلفة في الجامعة (وخارجها) وحتى مع جماعة المكفوفين الفلسطينيين الذين كانوا يدرسون في الأزهر، فكانت علاقاته الواسعة وحركيته وقدرته وفعاليته حكما لصالحة في صندوق الانتخابات .
لما كانت القضية الفلسطينية قد أصبحت في قلب ياسر عرفات بعد ما رآه مع عبد القادر الحسيني ونتيجة للتأثير الكبير الذي تركته النكبة عليه فانه عقد العزم على بناء ذاته: نقابيا وسياسياً ومتن من علاقاته الجماهيرية والخارجية فلم يترك مجالا يستطيع فيه أن يطرق الباب ليظهر اسم فلسطين إلا وفتحه
في مهرجان الطلاب العالمي 1954
في العام 1954 انعقد مؤتمر الطلاب والشباب العالمي الذي كان ينظمه اتحاد الطلاب العالمي بدعم من الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية حينها ، وهذه مناسبة إعلامية هامة تجتمع فيه وفود عشرات الدول من كافة أنحاء العالم وتصل أعداد الحضور فيها لما يفوق المائة ألف طالب وطالبة.
لقد رأى أبو عمار في هذا الحدث فرصته وحدث ولا حرج عن استثماره للفرص في حياته اللاحقة – ولكن كيف السبيل للوصول إلى ( وارسو ) حيث المهرجان– المؤتمر ؟
يروى عنه زملاؤه أنه بذل كل الجهد للمشاركة فأستطاع أن يحقق ذلك من خلال الوفد المصري ولكن الوفد اعلمه بإدراج أسماء الفلسطينيين دون قدرة على توفير تذاكرهم، وهنا لا تقف العوائق أمام عرفات فيذهب مع زملائه بالباخرة وصولا إلى مركز الحدث الطلابي العالمي في آخر لحظة .
لقد كان هدفه فلسطين في زمن عزّ فيه ذكرها فقضى ليلته الأولى يخطط ليوم افتتاح المهرجان وما بعده ، فما أن وصل ياسر عرفات وزملائه السائرين في مؤخرة الوفد المصري في طابور الاستعراض للوفود داخل الملعب الكبير إلى مواجهة منصة الشرف حتى رفع أبو عمار لوحة مكتوب عليها بالعربية والانجليزية كلمة فلسطين. هذا هو أبوعمار الذي كانت فلسطين تحتل كل قلبه إلى درجة استصعب بها الزواج فالقلب
مشغول والفكر هيمان,
قضى ياسر عرفات أيام المهرجان الكبير في الدعوة والاستقطاب والتبشير بالقضية الفلسطينية فلم يترك وفدا واحدا إلا وزاره ونسج معه علاقات، دامت حينما غدا الكثيرون من الطلبة آنذاك في مواقع السفراء والوزراء وقادة الدول لاحقا .
استطاع ياسر عرفات أن يبني علاقاته باتساع وبقوة استثمرها في مستقبل القضية الفلسطينية، فكان له على سبيل المثال اتصالات مع مجلس قيادة الثورة في مصر كما يذكر عضو مجلس قيادة الثورة خالد محي الدين عن علاقته به ، ولما قدّم مع عدد من زملائه الطلاب وثيقة بالدم للرئيس محمد نجيب، وأمر الرئيس نجيب بدعمهم ، فما كان من القائد ياسر عرفات إلا أن وضع صورة الرئيس المصري في مقر رابطة الطلاب الفلسطينيين و أبى أن يزيل الصورة حتى مع تولي جمال عبد الناصر رئاسة الجمهورية عرفانا ووفاء للرجل
بركان ثائر صغير!
تخرج ياسر عرفات من كلية الهندسة عام 1956 ليدهمه العدوان الثلاثي على مصر فيستغل تدريبه العسكري في أوائل الخمسينات في تدريبه هو لأعضاء المقاومة الشعبية والذين كان منهم الشيخ يوسف القرضاوي، ثم ينخرط في فعاليات مقاومة العدوان، ويذهب إلى الكويت ليؤسس شركته الهندسية ويفتح صفحة جديدة من صفحات انبعاث الوطنية الفلسطينية من خلال حركة فتح.
( بركان ثائر صغير ) هكذا وصف أحد أعضاء الوفد الإسرائيلي ياسر عرفات عام 1957 في أحد المؤتمرات التي ضمت الوفد الإسرائيلي إلى جانب الوفود العربية والإسرائيلية. لقد كان من قوة هذا الفتى المدافع عن قضيته أن أرغم الوفد الإسرائيلي على الانكماش داخل المؤتمر.
دخل عرفات الكويت قبل الاستقلال، وهي بلد صحراوي قاحل لا يملك من مقومات الحياة الرغيدة شيئا آنذاك، لا أن البلد كان على عتبة النهوض لاسيما وان النفط تدفق في تلك السنوات بدرجة واعدة
نشأة حركة فتح
استثمر ياسر عرفات مساحة الحركة الواسعة في الكويت في الاستقطاب والتحشيد لفكرة التنظيم الوطني الذي يلقى جانبا بكل أردية الأحزاب تلك التي رفعت الشعارات عاليا، وجعلت من الفعل لمصلحة فلسطين آخر ما تفكر فيه ، بل واستخدمت معظم هذه الأحزاب تلك الشعارات في الانقضاض على الحكم في الدول العربية خاصة في كل من سوريا والعراق جاعلة قضية فلسطين حصان طروادة لقلوب شعوبها حيث سرعان ما نكصت و أبقت الشعار مفرغا بلا مضمون.
عادل عبد الكريم اسم كبير في تاريخ حركة فتح ، ورغم انه لم ينل حظه من النجومية في تاريخ الثورة إلا انه كان من المؤسسين الكبار الأوائل مع ياسر عرفات وخليل الوزير والعشرات الذين عاصروهم أو لحقوهم فهو على سبيل المثال كان حاضنة صلاح خلف وغيره ممن انضموا للحركة. أن هذا الرجل يعد بحق إلى جانب ياسر عرفات عقل الحركة ومبدع فكرها الوطني التحرري الاستقلالي.
في الكويت كان لقاء الرجلين وإخوانهم وعلى سواحل الخليج العربي أبدعوا الفكرة حيث أصبحت (فتح) مركب النجاة للشعب الفلسطيني من اللجؤ والتشتت، و(العاصفة) ذراعا عسكريا أين اجترح الاسم أبو عمار مع أبي يوسف النجار حفاظا على الحركة في حال الانطلاقة العسكرية التي سيتبعها اعتقالات وملاحقات وهو ما حصل عام 1965 بل قبله في العام 1964
لأنك لا يمكن أن تلم بتاريخ هذا الرجل الفريد في مقال واحد فان النظر له من محطات متعددة يبقى الفرصة مفتوحة لرؤيته بشكل أكبر ، وليعذرنا القارئ عن عدم القدرة على الإحاطة بشخصية فذة كشخصية ياسر عرفات بالقليل من الحبر.
(كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا ، وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة إلى فكرة الدولة ، وفي كل واحد منا شئ منه ) هكذا لخص الراحل محمود درويش عبقرية ياسر عرفات ما لا يستطيعه إلا بليغ كمحمود درويش
الاستقطاب حول فتح
منذ العام 1957 حتى العام 1964 قضى ياسر عرفات – وزملائه – زمانه في الاستقطاب حول الفكرة الجديدة فكانت الاتصالات متتابعة مع الأنوية الصاعدة في كل من دول الخليج وفي مصر والأردن وكل من الضفة وغزة ، وفي ألمانيا والنمسا تحديدا من الدول الأوربية ولما اختلف ياسر عرفات مع صحبه حول الانطلاقة وعلى موعدها صنفوه في تيار المجانين الذين سيشعلون ثورة دون موارد مالية من أحد ، لكنه كان ما يريده تماما أي أن تكون الانطلاقة بأيد فلسطينية وأموال أعضاء التنظيم كي يسقط شبهة الاحتواء لأي دولة عربية أو غربية منذ البداية وهذا ما حصل . رغم الاتهامات العديدة والاعتقالات التي أعقبت الانطلاقة في فجر الفاتح من يناير عام 1965 .
ياسر عرفات شخصية فريدة ألهمت المناضلين في كل أنحاء العالم قاطبة ( لقد كانت حماسته وثقته لا تتزعزع ، والتزامه بالكفاح من أجل إقامة الدولة الفلسطينية تشكل قيما رمزية في نظر الكثيرين في العالم ) مضيفا ( وكنت أتابع نشاطات الرئيس ياسر عرفات من غياهب سجني وكم أثارني بثباته ومثابرته ) كما يقول عنه المناضل الإفريقي الرئيس (نلسون مانديلا).
وحتى يصل بقضية للفضاءات الرحبة نسج خيوطا من العلاقات العربية والعالمية لأنه أدرك أهمية هذا العامل كما أسلفنا، وكان يتحين الفرص للقاء الزعيم جمال عبد الناصر ما حصل فعليا في أواخر العام 1967
اللقاء بالرئيس جمال عبد الناصر
قام الكاتب العروبي الشهير محمد حسنين هيكل – كما يروي – بترتيب اللقاء بين ياسر عرفات وصحبه( صلاح خلف – أبو إياد ، خالد الحسن، هايل عبد الحميد، فاروق القدومي ) والرئيس جمال عبد الناصر فينكسر بذلك عامل الجفاء والتشكك المصري الذي أحاط بانطلاقه حركة فتح وتبعيتها، وكان لقاء وديا وحارا طلب فيه الرئيس عبد الناصر من أبي عمار أن يشعل حرائق في المنطقة بينما يجهز لحرب التحرير، فأجابه أبو عمار أنه سيشعل ثورة وهذا ما كان . والذي دعى جمال عبد الناصر ليقول ان هذه الثورة وجدت لتبقى وأضاف عليها أبو عمار ولتنتصر.
لقد كانت حركة أبو عمار حركة دءوبة والتزامهلا يتزعزع لذلك لم يترك بلدا أو وفدا أو مهرجانا أو مؤتمرا أو احتفالا إلا اثبت فيه حضورا لفلسطين، فلقد كان يؤمن بالحضور الدائم ويرفض فكر القطيعة حتى مع خلافات كثيرة مع الأصدقاء والأشقاء إلا أنه سرعان ما يمد جسور التفاهم ثانية كما حصل مع السوريين الذين لقي منهم العنت والظلم والقهر الشديد ، ومع النظام المصري الذي فتح له باب العودة للأمة العربية أثر خروجه من حصارطرابلس عام 1983 متوجها إلى مصر
أن ياسر عرفات الذي بفتحه صفحة بيضاء من العلاقات مع مصر استطاع أن يؤمن دعما معنويا وماديا ضخما من مصر أو عبرها منذ البدايات .
لقد اصطحب الرئيس جمال عبد الناصر الاخوة ياسر عرفات و وصلاح خلف بجوازي سفر مصريين إلى روسيا وفي لقائه مع نظرائه الروس طرح الرئيس ناصر فكرة التعامل مع حركة فتح ولكن الروس لم يكونوا متشجعين وحاولوا أرجاء الموضوع إلى أن يلتقوا مع ممثلي فتح، فقال لهم جمال عبد الناصر ان ممثليهم ضمن الوفد فالتقى الوفد الفلسطيني برئاسة المصري محمد عبد الفتاح الاسم حسب الجواز حينها لأبي عمار مع القيادة الروسية وعكس قدرته على الاقناع عليها وتدفق اثر هذا اللقاء الهام السلاح السوفيتي للفدائيين والدعم المالي من السعودي
عرفات والتخفي والدبلوماسية!
لقد كان التخفي ضمن عباءة أخرى سمة من سمات الدبلوماسية العرفاتية فهو ذهب إلى وارسو عام 1954 لحضور مهرجان الطلبة العالمي ضمن الوفد المصري كما هو الحال لاحقا مع الرئيس ناصر عام 1968 الى موسكو، شارك في مؤتمر افريقي قاتل فيه عن القضية عام 1957 ضمن الوفد السوداني ، وخرج من الأردن اثر أحداث أيلول المؤسفة بعباءة كويتية ، وفي واشنطن شارك فلسطينيا في إطار الوفد الأردني – الفلسطيني المشترك ، وكان أن قام بعملية تخفى متقنة عندما دخل طرابلس لبنان قادما من تونس اثر حصار القوات السورية والمنشقين لقواته حيث ربض الليث خليل الوزير .
لقد سعت الدبلوماسية العرفاتية لتحقيق أمرين رئيسيين الأول: تحقيق الاعتراف العربي والإقليمي والعالمي بالقضية الفلسطينية ثم بالمؤسسات الممثلة لها من حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والثاني: ضمان الدعم بأشكاله من كافة الأوساط ، لذلك اتبع نهج (فتح) الأصيل بعدم التدخل في شؤون الدول العربية الداخلية وفي المقابل رفض بشكل قاطع محاولات السيطرة أو الهيمنة أو احتواء القرار الفلسطيني المستقل
عرفات الجنرال
عرفات الجنرال كما يشير إليه زميله القائد العروبي هاني الحسن إبان حصار بيروت ثم حصار المقاطعة عام 2001 هو القائد العسكري الذي خاض نضالات عدة في فلسطين عام 1967 أثر قيامه بتنظيم خلايا العمل المسلح حينها حيث قصف الاحتلال الاسرائيلي مقر اقامته في فندق الوحدة في رام الله وأماكن تخفي أخرى، ثم في حربه التي دخلها قسرا ضد النظام الأردني عام 1970 ، وفي حرب دفاعه عن تواجد الثورة في لبنان في أتون المعركة اللبنانية حتى العام 1982 والعام 1983 وحروب المخيمات اللاحقة حتى العام 1987 ، وحروبه كجنرال محنك ضد الإسرائيليين عبر مئات العمليات التي نفذت عبر البر والبحر والجو كان في ذلك كله لا يبتغي الموت بل يسعى نحو السلام القائم على الحق والعدالة فلم يكن يطلق قذيفة بهدف القتل أو الإيذاء وإنما تحقيقا لحلم أو دفعا لبلاء ما هو في مصلحة الشعب الفلسطينيين والقضية الفلسطينية.
هذا غيض من فيض من معين القائد ونهره الدفاق نهلنا منه ربما شربة ماء قد لا تطفيء ظمأ ولكنها تبقينا على قيد الحياة ولنا أن نشرب أكثر في أيام حر قادمة
تعليقات
إرسال تعليق